مقبرة السراويل

مقبرة السراويل
المؤلف A
تاريخ النشر
آخر تحديث

 مقبرة السراويل



بعد نزوحي مع الأسرة إلى مأرب واجهنا صعوبة كبيرة في الحصول على سكن. في بداية الأمر استأجرنا شقّة صغيرةً بمئة ألف ريال شهرياً. ورغم ان المبلغ باهظ نسبياً، الا ان  الشقة كانت أضيق بكثيرٍ من أن تتسعنا. مرت خمسة أشهر على هذه الحال قبل أن نحصل على بيت أكثر اتساعاً، في قريةٍ بإحدى ضواحي المدينة. 


قرية وديعة وساكنة. كلّ شيء فيها يوحي بالبساطة. تتموضع عند أقدام سلسلة جبليّةٍ تابعة لمنطقة صرواح. أهلها طيّبون وأسخياء. اسمها "الزُّور"، هكذا في تناقض صارخ مع حقيقتها وصدق أهلها. هناك صار لديّ بيت ولعمّي بيت يجاوره. ومنذ أوّل يومٍ انصهرنا كليّاً في جسد أهل القرية. 


أجمل ما في هذه القرية أطفالها. نشيطون وصاخبون. يلبسون أثواباً بيضاء أو رماديّة، ولا يتحزّمون. عيونهم تشفّ عن ذكاءٍ حادٍّ، تتّقد فطنةً. وإذا كان جميع أطفالها نشيطين فإن "عليّان" أكثرهم نشاطاً. إنّه صديقي المُقرّب جدّاً. عمره أربع سنوات. مع كلّ إطلالة شمس يخرج للّعبِ الصّاخبِ، ولا يستكين إلّا حين يغطّي المغرب وجه صرواح. أوّل مرّة رأيته كان يُناطِح خروفاً! 


وعليّان يَعتبر القرية كلّها بيته. يُفطِر في دارٍ، يتناول غداءه في أخر، والعشاء في ثالث. يرتجل حديثاً مع أيٍّ كان ويتحدث مع العجائز بالطريقة نفسها لحديثه مع سبأ، أخته الصغرى. 


أوّل مرّةٍ رآني، كان عمّي يناديني: يا باش مهندس. ناداني هو من حينها: يا مُش مهندس. وهكذا بدأت صداقة المُش مهندس مع عليّان. 


بأحد الأيّام عدتُ من المدينة، عشيّاً، إلى البيت لأجد زوجتي مقهقهةً، وكانت أمّ عليّان خرجت من عندها للتوّ. استفسرتها فأخبرتني بهذه التفاصيل. 


كبيرةٌ هي معاناة أبوَي عليّان من تصرفاته وتهوّره. لكن معاناتهما الأبرز كانت في محاولاتهما المستميتة والعبثيّة لإقناعه بأن يتسرول. ظلّ الصّغير يواجه هذه الفكرة برفضٍ ثوريٍّ. مهما حاولا، ترغيباً أو ترهيباً، كلّ تلك المحاولات تحصد الخيبة. كلّما أمسكته أمّه لتسروله يقفز كالملسوع. يثور كأنّما يراها تُلبِسُه حيّةً رقطاء. الأب لم يتسامح معه في الأمر مطلقاً. وكلّما زاد الفتى نفوراً إزاء محاولات السرولة ازدادت تلك المحاولات من الأب إصراراً وشراسةً. أعمل العصا في جسده أخيراً، فانصاع. 


لكنّ أبويه سرعان ما وقفا على مشكلة حيّرتهما وملأتهما بالهواجس. لقد كان عليّان يستسلم لأمه كلّ صباحٍ، تُلبسه السروال، لكنّه يعود إلى البيت في كلّ مرةٍ متجرّداً منه. يسألونه فيجيبهم بأنه تفاجأ بسرواله يطير في السماء بينما هو يلعب. كلّ مرّة يحلف لهم أيماناً مغلّظةً بأن سرواله طار فجأةً من بين ساقيه ومضى يحلّق من "الحماجرة"(الحارة خاصّتهم) إلى سماء "طعيمان"(الحارة المجاورة) وصولاً إلى الجبهة حيث يختفي هناك! 


وكان الأب يضحك من تلك الجديّة التي يبديها الصغير وهو يصف التحليق الأسطوريّ لسرواله الفذ. لكن مع التكرار أصبح الأمر مؤرّقاً للأبوين. ولعجزهما عن انتزاع اعترافٍ من الصبيّ قررا أن يراقباه. كانت الأمّ هي الموكلة بهذه المهمّة بالدّرجة الأولى. ولكن عبثاً. لقد كانت تكفي فقط دقيقة غفلةٍ واحدةٍ منها ليطير سروال عليّان إلى العدم. 


وكان أكثر ما يستفزّ الأبوين تلك الوضعيّة في الجلوس الّتي ينتهجها الصّغير. يسند ظهره لجدار البيت مفرشخاً ساقيه تاركاً أعضاءه لغزوات النّسائم. 


وبات الطيران الأسطوريّ لسراويله لغزاً مؤّرّقاً لهما مستعصياً على التفسير. كانت الأمّ قد أفضت بهذه المعضلة لصديقاتها القريبات من حيّزها الجغرافيّ. أرادت حصار الفتى بعددٍ أكبر من العيون لحلّ هذا اللغز. عينا زوجتي صارتا ضمن هذا الجيش من العيون. غير أنّ هذا الإجراء أيضاً لم يُجدِ نفعاً!

اكتشاف مقبرة السراويل

فقط في ذلك اليوم وبينما خرجت الأمّ لتنشر الغسيل في الحوش، لمحتْ في الزاوية الأكثر ظلاماً قماشةً بدت لها مألوفةً نوعاً ما.  مضت إلى تلك القماشة وانتزعتها. كان أغلبها مدفوناً. وما أن انتزعتها حتّى تبدّت لها العديد من الأقمشة أخذت تنتزعها تباعاً. إنّها المقبرة الّتي اختارها الماكر الصّغير لوأد سراويله اللعينة! 


مضت الأمّ تنتشل تلك الجثث وهي تقهقه كالمجنونة. خرج الأب ليستفسرها وإذا به أمام عرضٍ كبيرٍ لسراويل عليّان المفقودة، النّسور الأسطوريّة المحلّقة وفقاً لسرديّة الصّغير. لم يتمالك نفسه من الضحك. وبتلك اللحظة غمره فيض من الحنان والتفهم تجاه الولد. أمعن النظر في عيون الأم المتلألئة بدموع الضحك وأقسم أن لا يجبر عليّان على التسرول بعد الآن، ولو لم يرتدِها ما عاش. 


وإمعاناً في التفكُّه حملت الأمّ هذه السراويل وطافت بها بيوت الصديقات تخبرهنّ عن انحلال اللغز، وبالتالي انتهاء مهمة التجسس التي أوكلتها إليهن منذ شهور. 

نضال عليان

بعد أن انتهت زوجتي من السرد وبعد أن أخذت وقتي من الضحك، أطرقت مفكراً: هل الظَفَر هو القدر المحتوم لكل متمسك بقناعاته، لكل من خاض معركته من أجل مبادئه أياً كانت أخلاقية هذه المبادئ؟! لم يخسر عليّان هذه المعركة. لقد نجح أخيراً في نضاله، النّضال الشرس ضدّ الإرادة الجمعيّة لكبح رغبته بإبقاء أعضائه الحميميّة مشرعةً للريح. تمكّن بإصراره وحيله وخياله الطفوليّ من تحرير أعضائه، وربّما إلى الأبد. 


بقلم عبدالله شروح.2018


 __

تعليقات

عدد التعليقات : 0